فصل: باب الإبعاد والاستتار للمتخلي في الفضاء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب النهي عن التضبيب بهما إلا بيسير الفضة

1- عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم‏)‏‏.‏

رواه الدارقطني‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا البيهقي كلاهما من طريق يحيى بن محمد الجاري عن زكريا بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن مطيع عن أبيه عن ابن عمر بهذا اللفظ‏.‏ وزاد البيهقي في رواية له عن جده وقال إنها وهم‏.‏

وقال الحاكم في علوم الحديث لم نكتب هذه اللفظة ‏(‏أو إناء فيه شيء من ذلك‏)‏ إلا بهذا الإسناد‏.‏

وقال البيهقي المشهور عن ابن عمر في المضبب موقوفًا عليه ثم أخرجه بسند له على شرط الصحيح أنه كان لا يشرب في قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة ثم روي النهي في ذلك عن عائشة وأنس‏.‏

وفي حرف الباء الموحدة في الأوسط للطبراني من حديث أم عطية ‏(‏نهانا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن لبس الذهب وتفضيض الأقداح‏)‏ قال‏:‏ تفرد به عمر بن يحيى بن معاوية بن عبد الكريم ويحيى بن محمد الجاري راوي تلك الزيادة قال البخاري‏:‏ يتكلمون فيه وقال ابن عدي‏:‏ هذا حديث منكر كذا في الميزان وفي الكاشف ليس بالقوي‏.‏ وفي الميزان أيضًا رواية يحيى بن زكريا بن إبراهيم وليس بالمشهور‏.‏

الحديث استدل به من قال بتحريم الأكل والشرب في الآنية المذهبة والمفضضة‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز إذا وضع الشارب فمه على غير محل الذهب والفضة واستدل له بما سيأتي وأجيب عن حديث الباب بما سلف من المقال فيه‏.‏

2- وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن قدح النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة‏)‏‏.‏

رواه البخاري ولأحمد عن عاصم الأحول قال‏:‏ ‏(‏رأيت عند أنس قدح النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فيه ضبة فضة‏)‏‏.‏

وفي لفظ للبخاري من حديث عاصم الأحول‏:‏ رأيت قدح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عند أنس بن مالك وكان انصدع فسلسله بفضة‏.‏

وحكى البيهقي عن موسى بن هارون أو غيره أن الذي جعل السلسلة هو أنس لأن لفظه فجعلت مكان الشعب سلسلة وجزم بذلك ابن الصلاح‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وفيه نظر لأن في الخبر عند البخاري عن عاصم قال‏:‏ وقال ابن سيرين‏:‏ إنه كان فيه حلقة من حديد فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة فقال له أبو طلحة‏:‏ لا تغير شيئًا صنعه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فهذا يدل على أنه لم يغير شيئًا‏.‏

الحديث يدل على جواز اتخاذ سلسلة أو ضبة من فضة في إناء الطعام والشراب وهو حجة لأبي حنيفة والحديث السابق الذي فيه ‏(‏أو إناء فيه شيء من ذلك‏)‏ على فرض صحته لا يعارض هذا لأن شيئًا عام وهذا مخصص له وكذلك حديث النهي عن تفضيض الأقداح السابق مخصص بهذا فلا يعارض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الشعب‏)‏ هو الصدع والشق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏سلسلة‏)‏ السلسلة بفتح الفاء ‏[‏أي فاء كلمة سلسلة التي هي السين‏]‏‏.‏ المراد بها إيصال الشيء بالشيء‏.‏

 باب الرخصة في آنية الصفر ونحوها

1- عن عبد اللَّه بن زيد قال‏:‏ ‏(‏أتانا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ‏)‏‏.‏

رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه‏.‏

2- وعن زينب بنت جحش‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم كان يتوضأ في مخضب من صفر‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في تور‏)‏ التور بفتح المثناة الفوقية يشبه الطشت وقيل هو الطشت‏.‏ والطشت بفتح الطاء وكسرها وبإسقاط التاء لغات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من صفر‏)‏ الصفر بصاد مهملة مضمومة نوع من النحاس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في مخضب‏)‏ المخضب بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة بعدها موحدة المشهور أنه الإناء الذي يغسل فيه الثياب من أي جنس كان وقد يطلق على الإناء صغر أو كبر‏.‏

والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على جواز استعمال آنية الصفر للوضوء وغيره وهو كذلك‏.‏ وله فوائد محلها الوضوء‏.‏

 باب استحباب تخمير الأواني

1- عن جابر بن عبد اللَّه في حديث له‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ أوكِ سقاءك واذكر اسم اللَّه وخمر إناءك واذكر اسم اللَّه ولو أن تعرض عليه عودًا‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ ولمسلم‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس له غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء‏)‏‏.‏

الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي‏.‏ ولفظ أبي داود‏:‏ ‏(‏أغلق بابك واذكر اسم اللَّه فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا واطف مصباحك واذكر اسم اللَّه وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم اللَّه وأوكِ سقاءك واذكر اسم اللَّه‏)‏ وله في أخرى من حديث جابر‏:‏ ‏(‏فإن الشيطان لا يفتح بابًا غلقًا ولا يحل وكاء ولا يكشف إناء وإن الفويسقة تضرم على الناس بيتهم أو بيوتهم‏)‏‏.‏ وأخرجها أيضًا مسلم والترمذي وابن ماجه وفي رواية له أيضًا عن جابر قال‏:‏ ‏(‏كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فاستسقى فقال رجل من القوم‏:‏ ألا نسقيك نبيذًا قال‏:‏ بلى فخرج الرجل يشتد فجاء بقدح فيه نبيذ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ألا خمرته ولو أن تعرض عليه عودًا‏)‏‏.‏ وأخرجها مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أوكِ سقاءك‏)‏ الوكاء ككباء رباط القربة وقد وكأها وأوكأها أي ربطها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وخمر إناءك‏)‏ التخمير التغطية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولو أن تعرض عليه عودًا‏)‏ أي تضعه على العرض وهو الجانب من الإناء من عرض العود على الإناء والسيف على الفخذ يعرضه ويعرضه فبهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏[‏وباء‏]‏ الوباء محركة الطاعون أو كل مرض عام قاله في القاموس‏.‏

والحديث يدل على مشروعية التبرك بذكر اسم اللَّه عند إيكاء السقاء وتخمير الإناء وكذلك عند تغليق الباب وإطفاء المصباح كما في الروايات التي ذكرناها‏.‏ وقد أشعر التعليل بقوله‏:‏ ‏(‏فإن الشيطان إلى آخره‏)‏ أن في التسمية حرزًا عن الشيطان وأنها تحول بينه وبين مراده‏.‏ والتعليل بقوله‏:‏ ‏(‏فإن في السنة ليلة‏)‏ كما في رواية مسلم يشعر بأن شرعية التخمير للوقاية عن الوباء وكذلك الإيكاء وقد تكلف بعضهم لتعيين هذه الليلة ولا دليل له على ذلك‏.‏

 باب آنية الكفار

1- عن جابر بن عبد اللَّه قال‏:‏ ‏(‏كنا نغزو مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك عليهم‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

2- وعن أبي ثعلبة قال‏:‏ ‏(‏قلت يا رسول اللَّه إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم قال‏:‏ إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها‏)‏‏.‏

متفق عليه ولأحمد وأبي داود‏:‏ ‏(‏إن أرضنا أرض أهل الكتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم قال‏:‏ إن لم تجدوا غيرها فأرحضوها بالماء واطبخوا فيها واشربوا‏)‏‏.‏ وللترمذي قال‏:‏ ‏(‏سئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن قدور المجوس قال‏:‏ أنقوها غسلًا واطبخوا فيها‏)‏‏.‏

حديث جابر أخرجه ابن أبي شيبة بمعناه واستدل به من قال بطهارة الكافر وهو مذهب الجماهير من السلف والخلف كما قاله النووي لأن تقرير المسلمين على الاستمتاع بآنية الكفار مع كونها مظنة لملابسهم ومحلًا للمنفصل من رطوبتهم مؤذن بالطهارة‏.‏

وحديث أبي ثعلبة استدل به من قال بنجاسة الكافر وهو مذهب الهادي والقاسم والناصر ومالك وقد نسبه القرطبي في شرح مسلم إلى الشافعي قال في الفتح‏:‏ وقد أغرب‏.‏

ووجه الدلالة أنه لم يأذن بالأكل فيها إلا بعد غسلها ورد بأن الغسل لو كان لأجل النجاسة لم يجعله مشروطًا بعدم الوجدان لغيرها إذ الإناء المتنجس لا فرق بينه وبين ما لم يتنجس بعد إزالة النجاسة فليس ذلك إلا للاستقذار‏.‏ ورد أيضًا بأن الغسل إنما هو لتلوثها بالخمر ولحم الخنزير كما ثبت في رواية أبي ثعلبة عند أحمد وأبي داود إنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر وبما ذكره في البحر من أنها لو حرمت رطوبتهم لاستفاض نقل توقيهم لقلة المسلمين حينئذ وأكثر مستعملاتهم لا يخلو منها ملبوسًا ومطعومًا والعادة في مثل ذلك تقتضي الاستفاضة انتهى‏.‏ وأيضًا قد أذن بأكل طعامهم وصرح بحله وهو لا يخلو من رطوباتهم في الغالب‏.‏

وقد استدل من قال بالنجاسة بقوله‏:‏ تعالى ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ وقد استوفينا البحث في هذه المسألة وصرحنا بما هو الحق في باب طهارة الماء المتوضأ به وهو الباب الثاني من أبواب الكتاب فراجعه‏.‏

3- وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن يهوديًا دعا النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏ والإهالة الودك والسنخة الزنخة المتغيرة‏.‏ وقد صح عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم الوضوء من مزادة مشركة‏.‏ وعن عمر الوضوء من جرة نصرانية‏.‏

الكلام على فقه الحديثين قد سبق‏.‏ قال في النهاية في حرف السين‏:‏ السنخة المتغيرة الريح ويقال بالزاي‏.‏ وقال في حرف الزاي‏:‏ أن رجلًا دعا النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقدم إليه إهالة زنخة فيها عرف أي متغيرة الرائحة ويقال سنخة بالسين انتهى‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ وقد ذهب بعض أهل العلم إلى المنع من استعمال آنية الكفار حتى تغسل إذا كانوا ممن لا تباح ذبيحته وكذلك من كان من النصارى بموضع متظاهرًا فيه بأكل لحم الخنزير متمكنًا فيه أو يذبح بالسن والظفر ونحو ذلك وأنه لا بأس بآنية من سواهم جمعًا بذلك بين الأحاديث‏.‏ واستحب بعضهم غسل الكل لحديث الحسن بن علي قال‏:‏ ‏(‏حفظت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏)‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه اهـ‏.‏ وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم‏.‏

 أبواب أحكام التخلي

 

باب ما يقول المتخلي عند دخوله وخروجه

1- عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء قال‏:‏ اللَّهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث‏)‏‏.‏

رواه الجماعة ولسعيد بن منصور في سننه كان يقول‏:‏ ‏(‏بسم اللَّه اللَّهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا دخل الخلاء‏)‏ قال في الفتح‏:‏ أي كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول لا بعده وقد صرح بهذا البخاري في الأدب المفرد قال‏:‏ حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد بن زيد ثنا عبد العزيز ابن صهيب قال‏:‏ حدثني أنس قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال‏)‏ فذكر مثل حديث الباب وهذا في الأمكنة المعدة لذلك وأما في غيرها فيقوله‏:‏ في أول الشروع عند تشمير الثياب وهذا مذهب الجمهور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الخبث‏)‏ بضم المعجمة والموحدة كذا في الرواية وقال الخطابي‏:‏ إنه لا يجوز غيره وتعقب بأنه يجوز إسكان الباء الموحدة كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه ككتب وكتب قاله في الفتح‏.‏ قال النووي‏:‏ وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة منهم أبو عبيدة إلا أن يقال إن ترك التخفيف أولى لئلا يشتبه بالمصدر‏.‏ والخبث جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة قال الخطابي وابن حبان وغيرهما‏:‏ يريد ذكران الشياطين وإنائهم قال في الفتح‏:‏ قال البخاري ويقال الخبث أي بإسكان الباء فإن كانت مخففة عن المحركة فقد تقدم توجيهه وإذا كانت بمعنى المفرد فمعناه كما قال ابن الأعرابي المكروه قال‏:‏ فإن كان من الكلام فهو الشتم وإن كان من الملل فهو الكفر وإن كان من الطعام فهو الحرام وإن كان من الشراب فهو الضار وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التناسب قال‏:‏ وقد روى المعمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال‏:‏ ‏(‏إذا دخلتم الخلاء فقولوا بسم اللَّه أعوذ باللَّه من الخبث والخبائث‏)‏ وإسناده على شرط مسلم وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية اهـ‏.‏ وهذه الرواية تشهد لما في حديث الباب من رواية سعيد بن منصور‏.‏

2- عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا خرج من الخلاء قال غفرانك‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏

الحديث صححه الحاكم وأبو حاتم قال في البدر المنير‏:‏ ورواه الدارمي وصححه ابن خزيمة وابن حبان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏غفرانك‏)‏ إما مفعول به منصوب بفعل مقدر أي أسألك غفرانك أو أطلب أو مفعول مطلق أي اغفر غفرانك قيل إنه استغفر لتركه الذكر في تلك الحالة لما ثبت أنه كان يذكر اللَّه على كل أحواله إلا في حال قضاء الحاجة فجعل ترك الذكر في هذه الحالة تقصيرًا وذنبًا يستغفر منه‏.‏ وقيل استغفر لتقصيره في شكر نعمة اللَّه عليه بإقداره على إخراج ذلك الخارج وهو المناسب للحديث الآتي في الحمد‏.‏

وعن أنس رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا خرج من الخلاء قال الحمد للَّه الذي أذهب عني الأذى وعافاني‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

الحديث رواه ابن ماجه عن هارون بن إسحاق حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن وقتادة عن أنس‏.‏

فهارون بن إسحاق وثقه النسائي وقال في التقريب‏:‏ صدوق وعبد الرحمن المحاربي هو ابن محمد وثقه ابن معين والنسائي وقال في التقريب‏:‏ لا بأس به وكان يدلس قاله أحمد وإسماعيل ابن مسلم إن كان العبدي فقد وثقه أبو حاتم وإن كان البصري فهو ضعيف وكلاهما يروى عن الحسن‏.‏ وقد رواه أيضًا النسائي وابن السني عن أبي ذر‏.‏ ورمز السيوطي بصحته‏.‏

وفي حمده صلى اللَّه عليه وآله وسلم إشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنة جزيلة فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها وحق على من أكل ما يشتهيه من طيبات الأطعمة فسد به جوعته وحفظ به صحته وقوته ثم لما قضى منه وطره ولم يبق فيه نفع واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة خرج بسهولة من مخرج معد لذلك أن يستكثر من محامد اللَّه جل جلاله اللَّهم أوزعنا شكر نعمتك‏.‏

 

باب ترك استصحاب ما فيه ذكر اللَّه

1- عن أنس قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي‏.‏ وقد صح أن نقش خاتمه كان محمد رسول اللَّه‏.‏

الحديث أخرجه ابن حبان والحاكم قال النسائي‏:‏ هذا حديث غير محفوظ وقال أبو داود‏:‏ منكر وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وأشار إلى شذوذه‏.‏ وأما الترمذي فصححه‏.‏ قال النووي‏:‏ هذا مردود عليه ذكره في الخلاصة‏.‏ وقال المنذري‏:‏ الصواب عندي تصحيحه فإن رواته ثقات إثبات وتبعه أبو الفتح القشيري في آخر الاقتراح وعلته أنه من رواته همام عن ابن جريج وابن جريج لم يسمع من الزهري وإنما رواه عن زياد بن سعد عن الزهري بلفظ آخر وقد رواه مع همام مرفوعًا يحيى بن الضريس البجلي ويحيى بن المتوكل أخرجهما الحاكم والدارقطني وقد رواه عمر بن عاصم وهو من الثقات عن همام موقوفًا على أنس‏.‏

وأخرج له البيهقي شاهدًا وأشار إلى ضعفه ورجاله ثقات ورواه الحاكم أيضًا ولفظه‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لبس خاتمًا نقشه محمد رسول اللَّه فكان إذا دخل الخلاء وضعه‏)‏ وله شاهد من حديث ابن عباس رواه ‏[‏ص 90‏]‏ الجوزقاني في الأحاديث الضعيفة وينظر في سنده فإن رجاله ثقات إلا محمد بن إبراهيم الرازي فإنه متروك قاله الحافظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد صح أن نقش خاتمه‏)‏ أخرجه البيهقي والحاكم قال الحافظ‏:‏ ووهم النووي والمنذري في كلاميهما على المهذب فقالا هذا من كلام المصنف لا من الحديث ولكنه صحيح من طريق أخرى في أن نقش الخاتم كان كذلك‏.‏

والحديث يدل على تنزيه ما فيه ذكر اللَّه تعالى عن إدخاله الحشوش والقرآن بالأولى حتى قال بعضهم يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة وقد خالف في ذلك المنصور باللَّه فقال‏:‏ لا يندب نزع الخاتم الذي فيه ذكر اللَّه لتأديته إلى ضياعه وقد نهى عن إضاعة المال والحديث يرده‏.‏

 

باب كف المتخلي عن الكلام

1- عن ابن عمر رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن رجلًا مر ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يبول فسلم عليه فلم يرد عليه‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا البخاري‏.‏

الحديث زاد فيه أبو داود من طريق ابن عمر وغيره ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تيمم ثم رد على الرجل السلام‏)‏‏.‏ ورواه أيضًا من طريق المهاجر بن قنفذ بلفظ أنه‏:‏ ‏(‏أتى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال‏:‏ إني كرهت أن أذكر اللَّه عز وجل إلا على طهر أو قال على طهارة‏)‏ وأخرج هذه الرواية أيضًا النسائي وابن ماجه وهو يدل على كراهة ذكر اللَّه حال قضاء الحاجة ولو كان واجبًا كرد السلام ولا يستحق المسلم في تلك الحال جوابًا‏.‏

قال النووي‏:‏ وهذا متفق وسيأتي بقية الكلام على الحديث في باب استحباب الطهارة لذكر اللَّه وفيه أنه ينبغي لمن سلم عليه في تلك الحال أن يدع الرد حتى يتوضأ أو يتيمم ثم يرد وهذا إذا لم يخش فوت المسلم أما إذا خشي فوته فالحديث لا يدل على المنع لأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تمكن من الرد بعد أن توضأ أو تيمم على اختلاف الرواية فيمكن أن يكون تركه لذلك طلبًا للأشرف وهو الرد حال الطهارة ويبقى الكلام في الحمد حال العطاس فالقياس على التسليم المذكور في حديث الباب وكذلك التعليل بكراهة الذكر إلا على طهر يشعران المنع من ذلك‏.‏ وظاهر حديث ‏(‏إذا عطس أحدكم فليحمد اللَّه‏)‏ يشعر بشرعيته في جميع الأوقات التي منها قضاء الحاجة فهل يخصص عموم كراهة الذكر المستفادة من المقام بحديث العطاس أو يجعل الأمر بالعكس أو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه فيتعارضان فيه تردد‏.‏ وقد قيل إنه يحمد بقلبه وهو المناسب لتشريف مثل هذا الذكر وتعظيمه وتنزيهه‏.‏

2- وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏سمعت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان فإن اللَّه يمقت على ذلك‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

الحديث فيه عكرمة بن عمار العجلي وقد احتج به مسلم في صحيحه وضعف بعض الحفاظ حديث عكرمة هذا عن يحيى بن أبي كثير ولكنه لا وجه للتضعيف بهذا فقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى واستشهد بحديثه البخاري عن يحيى أيضًا وفي الترغيب والترهب أن في إسناده عياض بن هلال أو هلال بن عياض وهو في عداد المجهولين‏.‏ وأخرجه ابن السكن وصححه وابن القطان من حديث جابر بلفظ‏:‏ ‏(‏إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدثا‏)‏ قال الحافظ ابن حجر‏:‏ وهو معلول‏.‏

والحديث يدل على وجوب ستر العورة وترك الكلام فإن التعليل بمقت اللَّه يدل على حرمة الفعل المعلل وجوب اجتنابه لأن المقت هو البغض كما في القاموس وروي أنه ‏(‏أشد البغض‏)‏ وقيل إن الكلام في تلك الحال مكروه فقط والقرينة الصارفة إلى معنى الكراهة الإجماع على أن الكلام غير محرم في هذه الحالة ذكره الإمام المهدي في الغيث فإن صح الإجماع صلح للصرف عند القائل بحجيته ولكنه يبعد حمل النهي على الكراهة ربطه بتلك العلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يضربان الغائط‏)‏ يقال ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء وضربت في الأرض إذا سافرت روي ذلك عن ثعلب والمراد هنا يمشيان إلى الغائط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كاشفين‏)‏ قال النووي‏:‏ كذا ضبطناه في كتب الحديث وهو منصوب على الحال قال‏:‏ ووقع في كثير من نسخ المهذب كاشفان وهو صحيح أيضًا خبر مبتدأ محذوف أي وهما كاشفان والأول أصوب‏.‏

وذكر الرجلين في الحديث خرج مخرج الغالب وإلا فالمرأتان والمرأة والرجل أقبح من ذلك‏.‏

 

باب الإبعاد والاستتار للمتخلي في الفضاء

1- عن جابر قال‏:‏ ‏(‏خرجنا مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في سفر فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه ولأبي داود‏:‏ ‏(‏كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد‏)‏‏.‏

الحديث رجاله عند ابن ماجه رجال الصحيح إلا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي فقال البخاري‏:‏ يكتب حديثه‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ليس بالقوي وقال في التقريب‏:‏ صدوق كثير الوهم وقد أخرجه أيضًا النسائي وأبو داود والترمذي وقال‏:‏ حسن صحيح من حديث المغيرة بلفظ‏:‏ ‏(‏كان إذا ذهب أبعد‏)‏ وأخرجه أبو داود من حديث جابر بلفظ‏:‏ ‏(‏كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد‏)‏ وفي إسناده أيضًا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي نزيل مكة وقد تكلم فيه غير واحد‏.‏ وقال في التقريب‏:‏ صدوق كثير الوهم من السادسة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يأتي البراز‏)‏ البراز بفتح الباء اسم للفضاء الواسع من الأرض كنى به عن حاجة الإنسان كما كنى عنها بالغائط والخلاء‏.‏

والحديث يدل على مشروعية الإبعاد لقاضي الحاجة والظاهر أن العلة إخفاء المستهجن من الخارج فيقاس عليه إخفاء الإخراج لأن الكل مستهجن‏.‏

2- وعن عبد اللَّه بن جعفر قال‏:‏ ‏(‏كان أحب ما استتر به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وابن ماجه‏.‏ وحائش نخل أي جماعته ولا واحد له من لفظه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هدف‏)‏ الهدف محركة كل مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو حائش نخل‏)‏ بالحاء المهملة فألف فياء مثناة تحتية فشين معجمة هو في كتب اللغة كما ذكره المصنف‏.‏

والحديث يدل على استحباب أن يكون قاضي الحاجة مستترًا حال الفعل بما يمنع من رؤية الغير له وهو على تلك الصفة ولعل قضاءه صلى اللَّه عليه وآله وسلم للحاجة في حائش النخل في غير وقت الثمرة لما عند الطبراني في الأوسط من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة أو على ضفة نهر جار‏)‏ ولكنه لم يروه عن ميمون إلا فرات بن السائب وفرات متروك قاله البخاري وغيره‏.‏

وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبًا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

الحديث رواه أيضًا ابن حبان والحاكم والبيهقي ومداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي وفيه اختلاف وقيل إنه صحابي ولا يصح والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول وقال أبو زرعة‏:‏ شيخ وذكره ابن حبان في الثقات وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل‏.‏

والحديث فيه الأمر بالتستر معللًا بأن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم وذلك أن الشيطان يحضر وقت قضاء الحاجة لخلوه عن الذكر الذي يطرد به فإذا حضر في ذلك الوقت أمر الإنسان بكشف العورة وحسن له البول في المواضع الصلبة التي هي مظنة رشاش البول وذلك معنى قوله‏:‏ يلعب بمقاعد بني آدم فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قاضي الحاجة بالتستر حال قضائها مخالفة للشيطان ودفعًا لوسوسته التي يتسبب عنها النظر إلى سوأة قاضي الحاجة المفضي إلى إثمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا أن يجمع كثيبًا من رمل‏)‏ الكثيب بالثاء المثلثة قطعة مستطيلة تشبه الربوة أي فإن لم يجد سترة فليجمع من التراب والرمل قدرًا يكون ارتفاعه بحيث يستره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليستدبره‏)‏ أي يجعله دبر ظهره وفيه أن الساتر حال قضاء الحاجة يكون خلف الظهر‏.‏

 

باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة واستدبارها

1- عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه‏:‏ عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال ‏(‏إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم في رواية الخمسة إلا الترمذي قال‏:‏ ‏(‏إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروثة والرمة‏)‏‏.‏ وليس لأحمد فيه الأمر بالأحجار‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا مالك‏.‏ وفي الباب عن أبي أيوب في الصحيحين كما سيأتي وعن سلمان في مسلم‏.‏ وعن عبد اللَّه بن الحارث بن جزء في ابن ماجه وابن حبان‏.‏ وعن معقل بن أبي معقل في أبي داود‏.‏ وعن سهل بن حنيف في مسند الدارمي وزيادة لا يستطب بيمينه هي أيضًا في المتفق عليه من حديث أبي قتادة بلفظ‏:‏ ‏(‏فلا يمس ذكره بيمينه وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه‏)‏ قال ابن منده‏:‏ مجمع على صحته وزيادة‏:‏ ‏(‏وكان يأمر بثلاثة أحجار‏)‏ أخرجها أيضًا ابن خزيمة وابن حبان والدارمي وأبو عوانة في صحيحه والشافعي من حديث أبي هريرة بلفظ‏:‏ ‏(‏وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار‏)‏ وأخرجها أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وصححها من حديث عائشة بلفظ‏:‏ ‏(‏فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهن فإنها تجزئ عنه‏)‏ وأخرجها مسلم من حديث سلمان وأبو داود من حديث خزيمة بن ثابت بلفظ‏:‏ ‏(‏فليستنج بثلاثة أحجار‏)‏ وعند مسلم من حديث سلمان بلفظ ‏(‏أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار‏)‏‏.‏

والحديث يدل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال‏:‏

الأول لا يجوز ذلك لا في الصحارى ولا في البنيان وهو قول أبي أيوب الأنصاري الصحابي ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وأبي ثور وأحمد في رواية كذا قاله النووي في شرح مسلم ونسبه في البحر إلى الأكثر ورواه ابن حزم في المحلى عن أبي هريرة وابن مسعود وسراقة بن مالك وعطاء والأوزاعي‏.‏ وعن السلف من الصحابة والتابعين‏.‏

المذهب الثاني الجواز في الصحارى والبنيان وهو مذهب عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك وداود الظاهري كذا رواه النووي في شرح مسلم عنهم وهو مذهب الأمير الحسين‏.‏

المذهب الثالث أنه يحرم في الصحارى لا في العمران وإليه ذهب مالك والشافعي وهو مروي عن العباس بن عبد المطلب وعبد اللَّه بن عمر والشعبي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه صرح بذلك النووي في شرح مسلم أيضًا وزاد في البحر عبد اللَّه بن العباس ونسبه في الفتح إلى الجمهور‏.‏

المذهب الرابع أنه لا يجوز الاستقبال لا في الصحارى ولا في العمران ويجوز الاستدبار فيهما وهو أحد الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد‏.‏

المذهب الخامس أن النهي للتنزيه فيكون مكروهًا وإليه ذهب الإمام القاسم بن إبراهيم وأشار إليه في الأحكام وحصله القاضي زيد لمذهب الهادي عليه السلام ونسبه في البحر إلى المؤيد باللَّه وأبي طالب والناصر والنخعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي أيوب الأنصاري‏.‏

المذهب السادس جواز الاستدبار في البنيان فقط وهو قول أبي يوسف ذكره في الفتح‏.‏

المذهب السابع التحريم مطلقًا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين ذكره أيضًا في الفتح وقد ذهب إلى عدم الفرق بين القبلتين الهادوية ولكنهم صرحوا بأنه مكروه فقط‏.‏

المذهب الثامن أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتهم فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقًا قاله أبو عوانة صاحب المزني هكذا في الفتح‏.‏

احتج أهل المذهب الأول بالأحاديث الصحيحة الواردة في النهي مطلقًا كحديث الباب وحديث أبي أيوب وحديث سلمان وغيرها عن غيرهم كما تقدم قالوا‏:‏ لأن المنع ليس إلا لحرمة القبلة وهذا المعنى موجود في الصحارى والبنيان ولو كان مجرد الحائل كافيًا لجاز في الصحارى لوجود الحائل من جبل أو واد أو غيرهما من أنواع الحائل‏.‏ وأجابوا عن حديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم مستقبل الشام مستدبر الكعبة بأنه ليس فيه أنه كان ذلك بعد النهي وبأنه موافق لما كان عليه الناس قبل النهي فهو منسوخ صرح بذلك ابن حزم‏.‏ وعن حديث جابر الذي قال فيه‏:‏ ‏(‏نهى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها‏)‏ بأن فيه أبان بن صالح وليس بالمشهور قاله ابن حزم‏.‏ وفيه أنه قد حسن الحديث الترمذي والبزار وصححه البخاري وابن السكن والأولى في الجواب عنه أن فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في الأصول‏.‏ وعن حديث عائشة قالت‏:‏ ‏(‏ذكر لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أو قد فعلوها حولوا مقعدي قبل القبلة‏)‏ بأنه من طريق خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا ندري من هو‏.‏ قاله ابن حزم وقال الذهبي في ترجمته‏:‏ إن حديث حولوا مقعدي منكر وفيه أنه قال النووي في شرح مسلم أن إسناده حسن‏.‏

واحتج أهل المذهب الثاني بحديث ابن عمر وجابر وعائشة وسيأتي ذكر من أخرجها في الباب الذي بعد هذا وقالوا‏:‏ إنها ناسخة للنهي‏.‏

واحتج أهل المذهب الثالث بحديث ابن عمر وعائشة لأن ذلك كان في البنيان قالوا‏:‏ وبهذا حصل الجمع بين الأحاديث والجمع بينها ما أمكن هو الواجب قال الحافظ في الفتح‏:‏ وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة اهـ‏.‏ ويرده حديث جابر الآتي فإنه لم يقيد الاستقبال فيه بالبنيان وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا عموم لها وسيأتي تحقيق الكلام في الباب الذي بعد هذا‏.‏

وما روي عن ابن عمر أنه قال‏:‏ إنما نهى عن ذلك في الفضاء كما سيأتي يؤيد هذا المذهب‏.‏

واحتج أهل المذهب الرابع بحديث سلمان الذي في صحيح مسلم وليس فيه إلا النهي عن الاستقبال فقط وهو باطل لأن النهي عن الاستدبار في الأحاديث الصحيحة وهو زيادة يتعين الأخذ بها‏.‏

واحتج أهل المذهب الخامس بحديث عائشة وجابر وابن عمر وسيأتي ذكر ذلك قالوا‏:‏ إنها صارفة للنهي عن معناه الحقيقي وهو التحريم إلى الكراهة وهو لا يتم في حديث ابن عمر وجابر لأنه ليس فيهما إلا مجرد الفعل وهو لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في الأصول ولا شك أن قوله‏:‏ ‏(‏لا تستقبلوا القبلة‏)‏ خطاب للأمة نعم إن صح حديث عائشة لذلك‏.‏

واحتج أهل المذهب السادس بحديث ابن عمر لأن فيه أنه رآه مستدبر القبلة مستقبل الشام وفيه ما سلف‏.‏

واحتج أهل المذهب السابع بما رواه أبو داود قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط‏)‏ رواه أبو داود وابن ماجه قال الحافظ في الفتح‏:‏ وهو حديث ضعيف لأن فيه راويًا مجهول الحال وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس‏.‏ وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة وفيه نظر لما ذكرنا عن إبراهيم وابن سيرين انتهى‏.‏ وقد نسبه في البحر إلى عطاء والزهري والمنصور باللَّه والمذهب‏.‏

واحتج أهل المذهب الثامن بعموم قوله‏:‏ ‏(‏شرقوا أو غربوا‏)‏ وهو استدلال في غاية الركة والضعف‏.‏

إذا عرفت هذه المذاهب وأدلتها لم يخف عليك ما هو الصواب منها وسيأتيك التصريح به والمقام من معارك النظار فتدبره‏.‏

وفي الحديث أيضًا دلالة على أنه يجب الاستنجاء بثلاثة أحجار ولا يجوز الاستنجاء بدونها لنهيه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن الاستنجاء بدون ثلاثة أحجار وأما بأكثر من ثلاث فلا بأس به لأنه أدخل في الانقاء‏.‏

وقد ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى وجوب الاستنجاء وأنه يجب أن يكون بثلاثة أحجار أو ثلاث مسحات وإذا استنجى للقبل والدبر وجب ست مسحات لكل واحد ثلاث مسحات قالوا‏:‏ والأفضل أن يكون بست أحجار فإن اقتصر على حجر واحد له ست أحرف أجزأه وكذلك تجزئ الخرقة الصفيقة التي إذا مسح بأحد جانبيها لا يصل البلل إلى الجانب الآخر قالوا‏:‏ وتجب الزيادة على ثلاثة أحجار وإن لم يحصل الانقاء بها‏.‏

وذهب مالك وداود إلى أن الواجب الانقاء فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أنه ليس بواجب وإنما يجب عند الهادوية على المتيمم إذا لم يستنج بالماء لإزالة النجاسة قالوا‏:‏ إذ لا دليل على الوجوب كذا في البحر‏.‏

وفيه أنه قد ثبت الأمر بالاستجمار والنهي عن تركه بل النهي عن الاستجمار بدون الثلاث فكيف يقال لا دليل على الوجوب‏.‏

وفي الحديث أيضًا النهي عن الاستطابة باليمين‏.‏ قال النووي‏:‏ وقد أجمع العلماء على أنه منهي عنه ثم الجمهور على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم‏.‏ وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام قال‏:‏ وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا انتهى‏.‏ قلت‏:‏ وهو الحق لأن النهي يقتضي التحريم ولا صارف له فلا وجه للحكم بالكراهة فقط‏.‏

وفي الحديث أيضًا دلالة على كراهة الاستجمار بالروثة وقد ثبت عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عند البخاري أنه قال‏:‏ إنها ركس ولم يستجمر بها وكذلك الرمة وهي العظم لأنها من طعام الجن‏.‏ وسيأتي الكلام عن ذلك في باب النهي عن الاستجمار بدون الثلاثة الأحجار‏.‏

2- وعن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا وغربوا‏)‏ قال أبو أيوب‏:‏ فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر اللَّه تعالى‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أتيتم الغائط‏)‏ هو الموضع المطمئن من الأرض كانوا ينتاوبونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحدث كراهية منهم لذكره بخاص اسمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن شرقوا أو غربوا‏)‏ محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه مخالفًا لاستقبال القبلة واستدبارها كالمدينة وما في معناها من البلاد ولا يدخل فيه ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مراحيض‏)‏ بفتح الميم وبالحاء المهملة وبالضاد المعجمة جمع مرحاض وهو المغتسل وهو أيضًا كناية عن موضع التخلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونستغفر اللَّه‏)‏ قيل يراد به الاستغفار لباني الكنف على هذه الصفة الممنوعة عنده وإنما وجب المصير إلى هذا التأويل لأن المنحرف لا يحتاج إلى استغفار‏.‏

والحديث استدل به على المنع من استقبال القبلة‏.‏ واستدل بقول أبي أيوب من لم يفرق بين الصحارى والبنيان وقد تقدم الكلام على فقه الحديث في الذي قبله‏.‏

 

باب جواز ذلك في البنيان

1- عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏(‏رقيت يومًا على بيت حفصة فرأيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة‏)‏‏.‏

رواه الجماعة‏.‏

وقع في رواية لابن حبان مستقبل القبلة مستدبر الشام قال الحافظ‏:‏ وهي خطأ تعد من قسم المقلوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رقيت‏)‏ رقى إلى الشيء بكسر القاف رقيًا ورقوا صعد وترقى مثله ورقى غيره والمرقاة والمرقاة الدرجة ونظيره مسقاة مسقاة ومثناة ومثناة للحبل ومبناة ومبناة للعيبة أو النطع يعني بفتح الميم وكسرها فيها قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على بيت حفصة‏)‏ وقع في رواية ‏(‏على ظهر بيت لنا‏)‏ وفي أخرى ‏(‏على ظهر بيتنا‏)‏ وكلها في الصحيح‏.‏ وفي رواية لابن خزيمة ‏(‏دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت‏)‏ وطريق الجمع أن يقال أضاف البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته وأضافه إلى حفصة لأنه البيت الذي أسكنها فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أو أضافه إلى نفسه باعتبار ما آل إليه الحال لأنه ورث حفصة دون أخوته لكونه شقيقها‏.‏

الحديث يدل على جواز استدبار القبلة حال قضاء الحاجة وقد استدل به من قال بجواز الاستقبال والاستدبار ورأى أنه ناسخ واعتقد الإباحة مطلقًا‏.‏

وبه احتج من خص عدم الجواز بالصحارى كما تقدم ومن خص المنع بالاستقبال دون الاستدبار في الصحارى والعمران ومن جوز الاستدبار في البنيان وهي أربعة مذاهب من المذاهب الثمانية التي تقدمت ولكنه لا يخفى أن الدليل باعتبار الثلاثة المذاهب الأول من هذه الأربعة أخص من الدعوى‏.‏ أما الأول منها فظاهر‏.‏ وأما الثاني فلأن المدعى جواز الاستقبال والاستدبار في البنيان وليس في الحديث إلا الاستدبار‏.‏ وأما الثالث فلأن المدعى جواز الاستدبار في الصحارى والعمران وليس في الحديث إلا الاستدبار في العمران فقط ويمكن تأييد الأول من الأربعة بأن اعتبار خصوص كونه في البنيان وصف ملغى فيطرح ويؤخذ منه الجواز مجردًا عن ذلك ولكنه يفت في عضد هذا التأييد أن الواجب أن يقتصر في مخالفة مقتضى العموم على مقدار الضرورة ويبقى العام على مقتضى عمومه فيما بقي من الصور إذ لا معارض له فيما عدا تلك الصورة المخصوصة التي ورد بها الدليل الخاص وهذا لو فرض أن حديث أبي أيوب وغيره ورد بصيغة واحدة تعم الاستقبال والاستدبار فكيف وهو قد ورد بصيغتين صيغة دلت على منع الاستقبال وصيغة دلت على منع الاستدبار فغاية ما في حديث ابن عمر تخصيص الصيغة الثانية لأنه وارد في البنيان وهي عامة لكل استدبار ويمكن أيضًا تأييد المذهب الثاني من هذه الأربعة بأن الاستقبال في البنيان يقاس على الاستدبار ولكنه يخدش فيه ما قاله ابن دقيق العيد أن هذا تقديم للقياس على مقتضى اللفظ العام وفيه ما فيه على ما عرف في أصول الفقه وبأن شرط القياس مساواة الفرع للأصل أو زيادة عليه في المعنى المعتبر في الحكم ولا تساوي ههنا فإن الاستقبال يزيد في القبح على الاستدبار على ما شهد به العرف ولهذا اعتبر بعض العلماء هذا المعنى فمنع الاستقبال وأجاز الاستدبار وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح من الاستدبار فلا يلزم من إلغاء المفسدة الناقصة في القبح في حكم الجواز إلغاء المفسدة الزائدة في القبح في حكم الجواز انتهى‏.‏

وفيه أن دعوى الزيادة في القبح ممنوعة ومجرد اقتصار بعض أهل العلم على منع الاستقبال ليس لكونه أشد بل لأنه لم يقم دليل على جوازه كما قام على جواز الاستدبار والتخصيص بالقياس مذهب مشهور راجح وهذا على تسليم أنه لا دليل على الجواز إلا مجرد القياس وليس كذلك فإن حديث جابر الآتي بلفظ أنه رآه قبل أن يقبض بعام مستقبل القبلة نص في محل النزاع لولا ما أسلفنا في الباب الأول من أن فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يعارض قوله‏:‏ الخاص بنا كما تقرر في الأصول‏.‏

ويمكن تأييد المذهب الثالث من الأربعة بأن الاستدبار في الفضاء ملحق بالاستدبار في البنيان لأن الأمكنة أوصاف طردية ملغاة ويقدح فيه ما سلف‏.‏

وأما المذهب الرابع فلا مطعن فيه إلا ما ذكرناه أنه لا تعارض بين قوله‏:‏ الخاص بنا وفعله لا سيما ورؤية ابن عمر كانت اتفاقية من دون قصد منه ولا من الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلو كان يترتب على هذا الفعل حكم لعامة الناس لبينه لهم فإن الأحكام العامة لا بد من بيانها فليس في المقام ما يصلح للتمسك به في الجواز إلا حديث عائشة الآتي إن صلح للاحتجاج‏.‏

ومن جملة المستدلين بحديث ابن عمر القائلون بكراهة التنزيه وفيه ما مر‏.‏ وبقية الكلام على الحديث تقدمت في الباب الأول‏.‏

2- وعن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏(‏نهى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏

وأخرجه أيضًا البزار وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وحسنه الترمذي ونقل عن البخاري تصحيحه‏.‏ وحسنه أيضًا البزار وصححه أيضًا ابن السكن وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره وضعفه ابن عبد البر بأبان بن صالح القرشي قال الحافظ‏:‏ ووهم في ذلك فإنه ثقة بالاتفاق‏.‏ وادعى ابن حزم أنه مجهول فغلط‏.‏

والحديث استدل به من قال بجواز الاستقبال والاستدبار في الصحارى والعمران وجعله ناسخًا وفيه ما سلف إلا أن الاستدلال به أظهر من الاستدلال بحديث ابن عمر‏.‏ لأن فيه التصريح بتأخره عن النهي ولا تصريح في حديث ابن عمر ولعدم تقييده بالبنيان كما في حديث ابن عمر‏.‏ ولعدم ما يدل على أن الرؤية كانت اتفاقية بخلاف حديث ابن عمر وهو يرد على من قال بجواز الاستدبار فقط سواء قيده بالبنيان كما ذهب إليه البعض أو لم يقيده كما ذهب إليه آخرون وقد سبق ذكرهم في الباب الأول ويرد أيضًا على من قيد جواز الاستقبال والاستدبار بالبنيان لعدم التقييد من جابر وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا عموم لها فيحتمل أن يكون لعذر وأن يكون في بنيان هكذا أجاب الحافظ ابن حجر ذكر ذلك في التلخيص ولا يخفى أن احتمال أن يكون ذلك الفعل لعذر يقال مثله في حديث ابن عمر فلا يتم للشافعية ومن معهم الاحتجاج به على تخصيص الجواز بالبنيان‏.‏ وقد تقدم الكلام على الحديث في الذي قبله وفي الباب الأول‏.‏

3- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت‏:‏ ‏(‏ذكر لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنا ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أو قد فعلوها حولوا مقعدتي قبل القبلة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه‏.‏

الحديث قال ابن حزم في المحلى‏:‏ إنه ساقط لأن راويه خالد الحذاء وهو ثقة عن خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا ندري من هو وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت وهذا أبطل وأبطل لأن خالدًا الحذاء لم يدرك كثير ابن الصلت ثم لو صح لما كانت فيه حجة لأن نصه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يبين أنه إنما كان قبل النهي لأن من الباطل المحال أن يكون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم نهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك هذا ما لا يظنه مسلم ولا ذو عقل وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم فلو صح لكان منسوخًا بلا شك ثم لو صح لما كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط لا إباحة الاستدبار أصلًا فبطل تعلقهم به انتهى‏.‏ وقال الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن أبي الصلت‏:‏ إن هذا الحديث منكر‏.‏ وقال النووي في شرح مسلم‏:‏ إن إسناده حسن‏.‏

والحديث استدل به من ذهب إلى النسخ وقد عرفناك أنه لا دليل يدل على الجواز إلا هذا الحديث لأنه لا يصح دعوى اختصاصه بالنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لقوله‏:‏ ‏(‏أو قد فعلوها‏)‏ وأما حديث ابن عمر وجابر فقد قررنا لك أن فعله لا يعارض القول الخاص بالأمة‏.‏

وقوله‏:‏ لا تستقبلوا لا تستدبروا من الخطابات الخاصة بهم فيكون فعله بعد القول دليل الاختصاص به لعدم شمول ذلك الخطاب له بطريق الظهور ولا صيغة تكون فيه النصوصية عليه وهذا قد تقرر في الأصول ولم يذهب إلى خلافه أحد من أئمته الفحول ولكن الشأن في صحة هذا الحديث وارتفاعه إلى درجة الاعتبار وأين هو من ذاك فالإنصاف الحكم بالمنع مطلقًا والجزم بالتحريم حتى ينتهض دليل يصلح للنسخ أو التخصيص أو المعارضة ولم نقف على شيء من ذلك إلا أنه يؤنس بمذهب من خص المنع بالفضاء ما سيأتي عن ابن عمر من قوله‏:‏ إنما نهى عن هذا في الفضاء بالصيغة القاضية بحصر النهي عليه وسيأتي ما فيه‏.‏

4- وعن مروان الأصفر قال‏:‏ ‏(‏رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت‏:‏ أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن ذلك فقال‏:‏ بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

أخرجه وسكت عنه وقد صح عنه أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج وكذلك سكت عنه المنذري ولم يتكلم عليه في تخريج السنن‏.‏ وذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه بشيء وذكر في الفتح أنه أخرجه أبو داود والحاكم بإسناد حسن وروى البيهقي من طريق عيسى الخياط قال‏:‏ قلت للشعبي إني لأعجب لاختلاف أبي هريرة وابن عمر قال نافع عن ابن عمر‏:‏ دخلت إلى بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مستقبل القبلة‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها قال الشعبي صدقا جميعًا أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء فإن للَّه عبادًا ملائكة وجنًا يصلون فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط ولا يستدبرهم وأما كنفكم هذه فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها وأخرجه ابن ماجه مختصرًا‏.‏

وقول ابن عمر يدل على أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الصحراء مع عدم الساتر وهو يصلح دليلًا لمن فرق بين الصحراء والبنيان ولكنه لا يدل على المنع في الفضاء على كل حال كما ذهب إليه البعض بل مع عدم الساتر وإنما قلنا بصلاحيته للاستدلال لأن قوله‏:‏ إنما نهى عن هذا في الفضاء يدل على أنه قد علم ذلك من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ويحتمل أنه قال هذا إسنادًا إلى الفعل الذي شاهده ورواه فكأنه لما رأى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في بيت حفصة مستدبرًا القبلة فهم اختصاص النهي بالبنيان فلا يكون هذا الفهم حجة ولا يصلح هذا القول للاستدلال به وأقل شيء الاحتمال ‏[‏هذا مثل قوله‏:‏م الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال تنبه‏]‏‏.‏ فلا ينتهض لإفادة المطلوب‏.‏ وقد سقنا في شرح أحاديث هذا الباب والذي قبله من الكلام على هذه المسألة المعضلة أبحاثًا لا تجدها في غير هذا الكتاب ولعلك لا تحتاج بعد إمعان النظر فيها إلى غيره‏.‏

‏[‏فائدة‏]‏ قال المنصور باللَّه والغزالي والصيمري‏:‏ إنه يكره استقبال القمرين والنيرات قالوا لشرفها بالقسم بها فأشبهت الكعبة كذا في البحر وقد استقوى عدم الكراهة‏.‏ وقد قيل في الاستدلال على الكراهة بأنه روى الحكيم الترمذي عن الحسن قال حدثني سبعة رهط من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهم أبو هريرة وجابر وعبد اللَّه بن عمرو وعمران بن حصين ومعقل بن يسار وعبد اللَّه بن عمر وأنس بن مالك يزيد بعضهم على بعض في الحديث ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم نهى أن يبال في المغتسل ونهى عن البول في الماء الراكد ونهى عن البول في الشارع ونهى أن يبول الرجل وفرجه باد إلى الشمس والقمر‏)‏‏.‏ فذكر حديثًا طويلًا في نحو خمسة أوراق على هذا الأسلوب‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهو حديث باطل لا أصل له بل هو من اختلاق عباد بن كثير وذكر أن مداره عليه‏.‏ وقال النووي في شرح المهذب‏:‏ هذا حديث باطل وقال ابن الصلاح‏:‏ لا يعرف وهو ضعيف انتهى‏.‏